مستقبل الدول النامية أو "الهنود الحمر" سنة 2000 ميلادية
مختارات لا تنضب | بقلم د. محسون جلال -رحمة الله عليه- لـ"تجارة الرياض" (1972)
يحاول محسون جلال في قراءته المبكرة لتحولات الإنتاج أن يلفت الانتباه إلى مفارقة لافتة: فبينما قفزت الاقتصادات المتقدمة قفزات هائلة في الإنتاجية بفعل التقدم التكنولوجي واعتماد الآلة، لم تستطع الدول الأخرى مجاراة هذه القفزة. ليس لأن الجهد كان أقل، بل لأن الأدوات والمسارات كانت مختلفة من البداية. وهكذا، أصبحت الدول المتأخرة في موقع المتلقي لنتائج لم تصنع شروطها، ولا تملك مفاتيح تكرارها. المقال:
عندما يريد مدرس الاقتصاد إيضاح العلاقة بين ما يستعمل من العناصر المنتجة ـ وهي العمل والأرض ورأس المال وبين ما ينتجه الاقتصاد القومي خلال فترة معينة فإنه أي المدرس يلجأ إلى الاستعانة بمثال « الصندوق » الشهير .
يقول المدرس لطلبته إن الاقتصاد القومي يشبه الصندوق المفتوح الجانبين . وتدخل دفعات من عناصر الإنتاج من الجانب الأول وتخرج كميات معادلة من السلع والخدمات المنتجة من الجانب الآخر ، وطبعاً - يستطرد الأستاذ - كلّما كان ما يدخل من الجانب الأول كبيراً كلما كان ما يخرج من الجانب الثاني كبيراً هو الآخر .
ويستمر الأستاذ في شرحه لتقريب الفكرة إلى أذهان طلبته :
« وهذا المثال الآتي يوضح الفكرة . لنفرض أن ما قيمته ثلاثين ريالاً من العمل وما قيمته خمسين ريالاً من الأرض - خدماتها - وما قيمته عشرين ريالاً من خدمات رأس المال ( بما في ذلك المواد الخام تدفقت من الجانب الأول للصندوق خلال الفترة الإنتاجية ـ السنة مثلاً ـ فإن ما يخرج من الجانب الآخر سيكون إنتاجاً من السلع والخدمات النهائية بقيمة إجمالية تعادل مائة ريال » .
ثم يذرع الأستاذ الغرفة طولاً وعرضاً بقدميه وإن لم يكن ممكناً فبعينيه ويختتم حديثه كما لو أنه يكشف النقاب عن أسرار القنبلة الهيدروجينية ـ بكلمة يظهر فيها معرفته بشيء من - علم الفيزياء . « فالموضوع كما ترون بسيط ، فالمادة لا تفنى ولا تستحدث من العدم » .
وفي الواقع ، إن اكتفاء المدرس بهذا القدر من الشرح لا يعني أن هذا هو كل ما في الأمر أو أن القصة قد اكتملت . فهناك تحفظ صغير لا بد من إيراده وإن كان بصوت منخفض أو بينه وبين نفسه وهذا التحفظ هو : وقد كان هذا صحيحاً حتى حوالي 100 سنة مضت . ولكن لماذا هذا التحفظ ؟
بالرغم من أن علم الفيزياء يذكر أن المادة لا تفنى ولا تستحدث من العدم وجد علم الاقتصاد أن المادة يمكن أن تستحدث من العدم. وبتعبير أدق، وجد الاقتصاد الحديث أنه يمكن للإنتاج من المادة أن يكون أكثر من المادة (عناصر الإنتاج المستخدمة) نفسها وهذا هو نتيجة ما يعرف في عالم الاقتصاد الحديث بالتغيير التكنولوجي Technological Change. فقبل ظهور النظام الرأسمالي كانت المجتمعات تعاني من الركود والجمود المزمن بالنسبة لطرق الإنتاج وأساليب اكتساب الرزق. وفي الواقع، لم تطرأ تغييرات تذكر على طرق الإنتاج خلال خمسة آلاف سنة منذ قيام الثورة الزراعية وحتى بداية القرن التاسع عشر تقريباً فيما عدا ظهور بعض الاختراعات التي تُعدّ على الأصابع (أهمها استخدام العجلة وطاحون الهواء والسفن الشراعية وأنواع بدائية من آلات قياس الوقت) وحتى إذا عدنا إلى الماضي القريب خلال خمسمائة عام سبقت بداية القرن التاسع عشر مباشرة نلاحظ أن الزراعة (يعمل بها حوالي 80% من القوة العاملة، أما البقية فكانوا من المحاربين أو التجار أو الحرفيين أو طبقات مترفة تعيش على أكتاف الجميع) كانت هي النشاط الإنتاجي الأساسي السائد في المجتمعات إلى جانب بعض الصناعات اليدوية التي تهدف إمداد الحكام والأثرياء والجيوش بما يحتاجونه من المصنوعات البدائية البسيطة.
وعموماً كانت التغيرات في تلك المجتمعات صغيرة وبطيئة إلا إذا جاءت ظروف جوية مناسبة أو رديئة، تسبب في الحالة الأولى الازدهار وفي الحالة الثانية الأزمات والمجاعات (هذا بقاء الزراعة أساس الهيكل الإنتاجي). وكانت أوروبا موطناً للطاعون والكوليرا ولا تقلّ عنها في ذلك القارة الآسيوية. أما الأمريكتان فكانتا ملجأ لقطاع الطرق والباحثين عن المغامرة والثراء السريع.
إن ما حدث خلال المائة والخمسين سنة الماضية يفوق التغيرات التي حدثت خلال كل الآلاف من السنين السابقة مهما كان المقياس المادي الذي يستخدم لقياس هذه التغيرات المادية. وفي هذا الخصوص، كتب الاقتصادي الانجليزي الراحل اللورد كينز:
«منذ بداية الزمان الذي يوجد لدينا عنه معلومات، وحتى بداية القرن الثامن عشر لم تكن هناك تغييرات كبيرة تستحق الذكر في مستوى معيشة الإنسان العادي. صحيح أ أنه كانت هناك تقلبات من وقت لآخر، مرّة لأعلى وأخرى لأسفل، كحدوث المجاعات وانتشار الطاعون والحروب إلى جانب فترات ذهبية في أوقات أخرى، ولكن لم تحدث تغييرات جذرية من التطور. ويمكن أن يعزى بطء معدل النمو - أوسمة عدم النمو ـ إلى سببين: الأول هو الغياب اللافت للنظر للتحسينات التكنولوجية. والثاني هو فشل رأس المال في التجميع».
وفي الواقع لقد كان هناك تكوين رأسمالي غير أنه كان يأخذ أشكالاً غير منتجة كبناء الأهرامات والمعابد والقصور أو يأخذ صفة تعويضية قصيرة الأجل كزيادة المخزون من المحاصيل الزراعية لمواجهة الأيام السوداء. ثم وخلال المائتي سنة الماضية، بل وحتى المائة والخمسين سنة، انقلبت الآية وتغيرت الأوضاع المادية رأساً على عقب. وكان سبب هذا: استعمال الآلة في الإنتاج. وهذا هو أساس الحضارة الغربية المسيطرة في الوقت الحاضر. فاستخدام الآلة في الإنتاج، وما تعنيه من تسخير للطاقة الميكانيكية، والإنتاج في المصنع، وتوسع الأسواق، كل هذا حطم الاستمرارية القديمة لأسلوب الإنتاج والحياة المادية. ويقدر أن نمو الإنتاج خلال المائة السنة الماضية يساوي أضعاف ما حققه الإنسان خلال آلاف السنين السابقة عدداً من المرات. كما أن الإنتاج الصناعي تضاعف أربعين مرة خلال هذه السنوات المائة. ويقدر أيضاً أن المتوسط السنوي لنمو الاقتصاد العالمي خلال المائة السنة الماضية كان 2,6% سنوياً بينما كانت النسبة %0,1% في السنة في القرون التي سبقت.
لذا كان على الأستاذ أن یورد التحفظ الصغير الذي ذُكر. فإذا نظرنا إلى السنوات السابقة وحتى حوالي سنة 1800 ميلادية نجد أن ما كان يخرج من الجانب الآخر من الصندوق يعادل تقريباً ما كان يدخل من الجانب الأول. فإذا دخلت مائة وحدة من عناصر الإنتاج من هنا يخرج ما يعادل قيمتها في شكل سلع وخدمات منتجة من هناك. ثم لو انتقلنا إلى سنة تالية، سنة 1850 ميلادية مثلاً، نجد أن ما يخرج أصبح يعادل 110 وحدة. وفي سنة 1900 أصبح يعادل 130 وحدة ثم في سنة 1950 أصبح يعادل 200 وحدة. وبعد ذلك بعشر سنوات أي سنة 1960 أصبح يعادل 230 وحدة. والآن هو يعادل 280 وحدة. وطبعاً ليس المقصود بالسنوات أو الأرقام المذكورة ما حدث بالفعل وبالتمام وإنما هو لشرح فكرة التغير التكنولوجي في الحضارة الغربية (ليس المقصود بكلمة الغربية هنا أنها من أوروبا الغربية أو أمريكا وإنما المقصود حضارة الآلة عموماً. فهذه الحضارة ولدت قريباً ثم وبسرعة لا يمكن تتبعها أو استيعابها أخذت في النمو والتطوّر والسيطرة. إن أهم خصائص هذه الحضارة ـ من الناحية المادية هي سرعة التغير وتسارع معدل التجديد وكلما زاد رسوخ الحضارة في المجتمع، أي كلما زاد استعمال الآلة في الإنتاج كلما زاد معدل التجديد والاكتشاف. ويمكن القول أن التجديدات تسير على أساس متوالية هندسية مع الزمن. فإذا أخذنا مقياساً ثابتاً للزمن ـ أي فترة عشر سنوات تقريباً ـ يمكن تصوير تطوّر حركة التجديد بأنها تتضاعف مع كل فترة زمنية تمر وذلك كما يأتي1 :
وهكذا...
ومن هنا تأتي خطورة هذه الحضارة. فالسابق سيكون دائماً في المقدمة وكلما مر الزمن ومن كلما زادت الفجوة بين السابق واللاحق. تصوّر حالة دولتين، الدولة «أ» والدولة «ب» بدأت متأخرة بفترة زمنية واحدة فقط عشرة سنوات). معنى هذا أنه بينما يكون مستوى التجديد في «أ» هو 2، يكون مستواه في «ب» واحد فقط. وهذا فرق لا يبدو كبيراً. والآن لندع خمس فترات زمنية تمرّ (السنة 60 بالنسبة للدولة «آ» والسنة 50 بالنسبة للدولة «ب» سيكون مستوى التجديد في «أ» هو 32 بينما مستواه عند «ب» هو 16. وعندما تمر عشر فترات زمنية السنة 110 بالنسبة للدولة «أ» والسنة 100 بالنسبة للدولة «ب») في هذه الحالة سيكون مستوى التجديد عند الأولى هو 1042 بينما مستواه عند الثانية هو 512.
والآن خذ حالة دولتين تبدأ الثانية بعد الأولى بفترتين أو ثلاث فترات زمنية وانظر إلى النتيجة.
ليست هذه مبالغة ولا شك أن هذا صحيح إلى حدّ كبير لو جعلنا نقطة الانطلاق هي سنة 1940 ميلادية أو حتى سنة 1900 ويؤيد العديد من الدراسات هذا الاتجاه بصورة أو أخرى. إن حدوث التجديدات يتناسب مع درجة التطوّر كما أنه يحدث بمعدل أسرع في الدولة الأكثر تطوراً منه في الدولة الأقل تطوراً. وفي القاع تأتي الدولة الأخيرة ـ وهي الدولة المتخلفة التي تبدأ الآن في حين سبقتها الدول المتطوّرة بعشرات السنين وهذا هو الخطر.
إن الدول المتخلفة ما زالت تردّد قول الشاعر:
لكل زمان مضى آية وآية هذا الزمان الكتب
هذا في حين أن الوضع في الدول المتقدمة هو:
لكل سنة تمر آيـــة وآية هذه السنة هي... ماذا؟
الكهرباء، اللاسلكي، السيارة، التلفزيون، الطائرات ذات المراوح، الطائرات النفاثة، الذرة، الآلات الحاسبة الالكترونية الأقمار الصناعية، الصواريخ عابرة القارات وعابرة الكواكب، أشعة لايزر؟؟؟ الآية في الدول المتخلفة إنشاء مصنع تستورد كل آلاته ومعداته والمواد الخام المستعملة وذلك لإنتاج سلعة تكون قد اختفت من أسواق الدول المتقدمة لأنها أصبحت سلعة عقيمة لا تجد مشترياً لها هناك. الآية في الدول المتخلفة هي استعمال الطائرة أو السيارة أو التلفزيون وغير ذلك من الطيبات دون توفّر القدرة حتى على إصلاح بعض هذه الطيبات أو صناعة حتى «شكمان» السيارة.
ثم ستنجح الدولة المتخلفة يوماً ما في صنع السيارة ولكن ما إن تتوصل إلى ذلك إلا وتكون السيارة من التحف التي تقوم شعوب الدولة المتقدّمة بالتفرج عليها والتعجب: كيف كان آباؤنا يتحملون استعمال هذا الشيء للتنقل؟؟ وقد تنجح الدولة المتخلفة يوماً ما في صناعة الطائرة الشراعية أو ذات المراوح، في حين تكون الدولة المتقدمة قد وصلت إلى المريخ وربما إلى ما وراء المريخ. وقد تنجح الدولة المتخلفة في التعلّم على استعمال الآلات الحاسبة الالكترونية (الكومبيوتر) في الوقت الذي تتوصل فيه الدولة المتقدمة إلى استعمال هذه الآلات في السيطرة على الدولة الأولى. وليست هذه مبالغة إذ يقدر الآن أن تطوير أشعة اللايزر سيضع في يد الدولة المتقدّمة قدرة كبيرة جداً على السيطرة من وراء البحار وعلى أبعاد تصل إلى مئات الآلاف من الأميال.
تلك هي حضارة الآلة وحضارة التكنولوجيا الحديثة. تلك هي الحضارة الغربية المسيطرة في وقتنا الحاضر.
الفيديو يُجادل الاقتصادي يانيس فاروفاكيس بأن التقنية في السيارات الكهربائية لم تعد في القدرة على التصنيع بل في "رأسمالها السحابي” | تابعني على اليوتيوب
هل هذه نظرة متشائمة؟
هي كذلك بالتأكيد....
إن الخوف كل الخوف أن يأتي يوم، ليس بالبعيد تصبح فيه شعوب الدول اللاحقة مُسيَّرة بأجهزة توجد في أماكن تبعد آلاف الأميال إما في الفضاء أو في قيعان البحار أو في مراكز على الأرض. الخوف هو في أن تطغى علينا حضارة الآلة وقد بدأ ذلك بالفعل - فنحن - أي العالم المتخلف أو سمه النامي - إن شئت - لا نستطيع مقاومتها أو اللحاق بها لأننا بدأنا متأخرين كما أنها لن تقف في انتظارنا لأن هذا يتنافى مع أهم خصائصها: سرعة التغير. وفي مقابل هذه النظرة المتشائمة هناك النظرة المتفائلة - ليست من جانب كاتب المقال ـ فبعض الاقتصاديين، الذين يشعرون بالعطف على الدولة المتخلّفة، يحاولون إظهار أن الصورة ليست قاتمة كما أن الوضع ليس خطيراً كما يبدو. يرى هؤلاء الاقتصاديون أن كل ما على الدولة المتخلفة أن تفعله هو أن تستثمر كل الزيادة التي تتحقق في دخلها وأن لا تستهلك منه شيئاً وذلك لفترة من الزمن. وهكذا تتمكن الدولة المتخلفة من تحقيق «النمو المركب المدهش» Staggering Force of Compound Growths الأمر بسيط كما يشرحه لنا هؤلاء الاقتصاديون. تصوّر دولة كان دخلها 100 ريال وأن النمو بها هو %2% في السنة. إن هذه الدولة لو استطاعت استثمار كل الزيادة في الدخل كل سنة فإن دخل الدولة سيصبح 120 ريالاً بعد عشر سنوات وسيصبح 150 ريالاً بعد عشرين سنة. وهذا نمو، وإن كان متواضعاً. هل تريد تفاؤلاً أكبر؟ هذه دفعة أخرى: لنفرض أن الدولة المتخلّفة بدلاً من أن تنمو بمعدل 2% في السنة، تمكنت من رفع معدل النمو إلى 5% وأنها تستثمر كل هذه الزيادة. سيزداد دخل هذه الدولة إلى 150 ريالاً بعد عشر سنوات فقط كما سيصبح 250 ريالاً بعد عشرين سنة، وبعد مائة سنة سيصبح 13000 (أي سيزداد 130 ضعفاً). هل تريد المزيد ؟ هذه دفعة ثالثة من التفاؤل: يقول الاقتصاديون المتفائلون: وأما لو استطاعت الدول رفع معدل نموّها السنوي إلى 10% فإن دخلها سيزداد إلى ضعفين ونصف بعد عشر سنوات فقط وإلى سبعة أضعاف بعد عشرين سنة. أما لو مرت مائة سنة فإن دخلها سيتضاعف عدة آلاف من المرات.
هذه هي جوانب التفاؤل لدى المشفقين. وما أسهل استعمال الأرقام لتخدم الأغراض التي نريدها! جزى الله هؤلاء المشفقين خير الجزاء.
غير أن المشكلة تتلخص فيما يأتي: إن الدولة المتخلّفة هي ذات الدخل المنخفض وهي ذات معدل النمو المنخفض وهي التي لا تستطيع استثمار كل الزيادة في دخلها دائماً وتستهلك معظمها. أما الدولة المتقدّمة فهي ذات الدخل المرتفع، ومعدل النمو المرتفع والتي تستطيع استثمار كل الزيادة في دخلها بل وأكثر. فعندما يكون دخل العم صالح 100 ريال مثلاً، وينمو بمعدل 2% في السنة ماذا سيفعل العم صالح بهذه الزيادة التي نعم بها في نهاية السنة (أو خلالها)؟ قيمة هذه الزيادة هي ريالين فقط. لا شك أن العم صالح سيشعر أنه أصبح أكثر ثراءاً من السابق ولذا فإنه سيلجأ إلى زيادة استهلاكه من الخبز والملح وقد يحاول أن يبسطها كل البسط فيدخل البصل إلى قائمة مأكولاته. ومع هذا فقد يؤثر العم صالح أن يضغط على نفسه أملاً في مستقبل أفضل ويستثمر الزيادة في الدخل ـ ولكن في ماذا؟ إنه سيشتري مسحاة أو جاروفاً أو حبل مرس وربما «مفتاح» سيارة كخطوة أولى نحو شراء سيارة. والآن انظر إلى المستر «جوني»، إن دخله السنوي هو 10000 ريال وينمو بمعدل 10% في السنة (أي أن الزيادة السنوية هي 1000 ريال) . ان المستر جوني Jony يستطيع الاستغناء عن هذه الزيادة من الدخل، إلى جانب جزء من الدخل نفسه وعندما يستثمر هذه الزيادة لن يشتري جاروفاً أو مسحاة أو مفتاح سيارة ولكنه يستطيع شراء مولد كهربائي أو طرمبه ماء بالديزل أو على أسوأ الفروض عجلات السيارة الأربع على أمل شراء السيارة خلال عامين أو ثلاثة.
إن التفاؤل الذي يعزينا به بعض الاقتصاديين المشفقين هو نفسه مصدر الخطر الذي يواجه الدولة المتخلفة أو النامية إذا أردت الشفقة). والنمو في متوالية هندسية يعتمد على متغيرين قيمة الحد الأول للمتوالية ومعدل الزيادة فيها. وكلا هذين المتغيرين منخفض في الدولة المتخلفة وكلاهما مرتفع كثيراً في الدولة المتقدمة.
إنها الحضارة الغربية، حضارة الآلة وسيأتي يوم يصبح فيه مصير الدولة المتخلفة نفس المصير الذي آل إليه الهنود الحمر قبل 500 سنة. سيصبح كل العالم المتخلف هنوداً حمراً يعيشون في معسكرات للتصفية Concentration Camps وإن اختلفت طبيعة هذه المعسكرات وإن أضيئت بالكهرباء وفيها كثير من المصانع والطائرات والسيارات وتكييف الهواء. فهم، وبالرغم من هذه الطيّبات سيكونون في ذيل القائمة.
ولا يُقدر أن تُسَد الفجوة لأن معظم الزيادة في السكان ستكون في دول العالم المتخلفة. فعدد سكان الدول المتقدّمة في الوقت الحاضر يقدر بـ 1000 مليون نسمة بينما يقدر عدد سكان الدول المتخلفة بـ2500 مليون (أي النسبة هي 1 : 2,5) وفي سنة 2000م يقدر أن سكان الدول المتقدمة 1600 مليون - أي بزيادة قدرها 600 سيصبح مليون نسمة بينما سيصبح عدد سكان الدول المتخلفة 5400 مليون نسمة أي بزيادة قدرها 2900 مليون نسمة (وبالتالي ستصبح النسبة 1 : 3,4 تقريباً). وفي الوقت نفسه بينما يبلغ متوسط دخل الفرد السنوي في الدول المتقدمة 1800 دولار ومتوسط الدخل السنوي للفرد في الدول المتخلفة 150 دولاراً أي (12 : 1) وذلك في الوقت الحاضر، يقدر أن هذه المتوسطات ستصبح 5775 دولاراً للفرد في الدول المتقدمة و325 للفرد في الدول المتخلفة (أي 17,7 : 1). فالدول الثرية ستزداد ثراء بينما ستصبح الدول المتخلفة أكثر فقراً من الناحية النسبية.
ما هو الحل إذن؟
لقد قال غاندي إن حضارة الآلة ستحطّم نفسها في المستقبل. ومن المتصوّر حدوث هذا، فسرعة التغير في الحضارة الغربية يشمل أيضاً تطوّر أساليب التحطيم بحيث تصبح أسرع وأسرع. ولو كان غاندي يتوقع هذا ثم يقول دعونا ننتظر لما جاء غاندي بجديد حيث أن الكثيرين، أبناء الحضارة الغربية نفسها، يعتقدون في ذلك أيضاً. إن الجديد الذي جاء به ومن غاندي هو الدرجة من الإيجابية التي تتلخص في مناداته برفض الحضارة الغربية وإيقاف تيارها الجارف. وطبعاً لم ينصت أحد إلى ما قال غاندي وضحك البعض منه والبعض الآخر اتهمه بالجنون (ومن هؤلاء الكاتب الحالي نفسه عندما كان طالباً في مرحلة البكالوريوس).
وبالرغم من ما أن آراء غاندي تتضمن بعض الإيجابية إلا أنها لا تزال سلبية إلى حد. إن الإيجابية هي في قيام حضارة تنبع من داخل العالم المتخلّف نفسه وتبنى على أسس تختلف عن الأسس التي تقوم عليها الحضارة المسيطرة في الوقت الراهن - أي الآلة.
هل هذا كثير بعيد عن التصوّر؟
إن التاريخ الاقتصادي يثبت أن هذا ممكن. ألم يكن مهد الثورة الاقتصادية الأول في حياة الإنسان هو العالم المتخلّف اليوم؟
لقد قامت الثورة الزراعية في عالمنا وبالذات في عالمنا العربي في فلسطين ثم قامت الثورة الثانية ـ الثورة الصناعية - في عالمهم في انجلترا. لماذا لا تقوم ثورة اقتصادية ثالثة في عالمنا مرة أخرى؟
أما ما هي طبيعة هذه الثورة الثالثة فعلمها عند الله. ولكن الإيجابية من جانبنا، أي جانب المتخلف (النامي) هي الطريق. أما الاستسلام وإدمان الحضارة الغربية فهو المصير إلى الهنود الحمر سنة 2000 ميلادية.
انظر كتاب مبادئ الاقتصاد للمؤلف.