كيف ينبغي أن نُبسط التعقيد في الاقتصاد دون أن نقع في فخ التسطيح؟
قراءة في دراسة 1 | الاقتصاد السياسي التكيفي: نحو إطار فكري جديد
الاقتصاد السياسي التكيفي: نحو إطار فكري جديد1
يُعرف علم الاقتصاد بمهارته في "تبسيط المعقد"، وهو ما يجعله يبدو أحيانًا كالساحر الذي يحوّل الفوضى إلى نظام بخطوات محسوبة. وعبر التاريخ الحديث، وجد الاقتصاديون في القوالب الخطية ملاذًا آمنًا لفهم تعقيد العالم الاجتماعي والاقتصادي. ولكن، لنكن صادقين مع أنفسنا، هذا الميل للتبسيط -إن افترضنا حسن النوايا- يعكس في جوهره تحيزًا إدراكيًا وفكريًا نشأ من العالم الحديث الذي نحيا فيه. حيث باتت الآلات تفرض وجودها في كل تفاصيل حياتنا: نستيقظ على هاتف يوقظنا بلمسة شاشة، نتنقل بسيارات تعمل بضغطة زر، نتسوق عبر الإنترنت، بل وباتت التطبيقات تخبرنا ماذا نأكل وماذا نشاهد ومتى ننام.
هذا الانغماس في عالم تحكمه الآلات والخوارزميات لم يكتفِ بتبسيط تعاملاتنا اليومية، بل أثر على إدراكنا للعالم من حولنا. فأصبحنا نميل إلى إسقاط النموذج الميكانيكي على الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية، متجاهلين أنها أكثر تعقيدًا وتفاعلية. وعزز هذا التحيز التوجه السائد في المنهج العلمي الحديث، الذي يُفضل النماذج القابلة للقياس والتحليل ويركز على العلاقات السببية الواضحة، متغافلًا عن أن العالم الاجتماعي والاقتصادي لا يمكن اختزاله في معادلات جامدة.
لقد جعلنا هذا المزج بين الحياة الميكانيكية والمنهج العلمي المهيمن أسرى رؤية سطحية، نبحث فيها عن حلول مباشرة تختزل تعقيد المجتمعات في قوالب خطية، بعيدة كل البعد عن حقيقة التفاعلات الإنسانية. ومع ذلك، يظل يجذبنا هذا التحيز، لأنه يمنحنا وهم السيطرة والفهم. فكان من انعكاس ذلك التحيز في الاقتصاد السياسي ظهور ثلاث مدارس رئيسية يَعْمَهُونَ في محاولاتهم لرسم صورة مثالية لدور المؤسسات في التنمية، ولكن كل واحدة منها تأتي مع نصيبها الخاص من الإشكاليات، كما تشير الاقتصادية السنغافورية وأستاذة جامعة جونز هوبكنز، يوان يوان آن، في ورقتها "الاقتصاد السياسي التكيفي":
مدرسة التحديث (Modernization Theory): تُبشّر برؤية حالمة بأن النمو الاقتصادي سيتبعه تلقائيًا مؤسسات قوية وديمقراطية وربما مجتمعًا سعيدًا يرقص تحت أضواء الحداثة. لكنها تُغفل السؤال الأهم: كيف يمكن للمجتمعات التي تفتقر أصلًا إلى المؤسسات القوية أن تبدأ عملية النمو الاقتصادي؟ كأننا نطلب من شخص بلا ساقين أن يركض ماراثونًا!
مدرسة الاقتصاد المؤسسي (Institutional Economics): من ناحية أخرى، تقف مدرسة الاقتصاد المؤسسي بثقة وتُعلن أن المؤسسات الجيدة هي أساس كل شيء – النمو الاقتصادي، الاستقرار، وربما حتى السعادة الزوجية!
لكن عند السؤال: "وكيف نبني هذه المؤسسات في دول مضطربة أو ذات مؤسسات ضعيفة؟"، يسود صمت فلسفي كأنهم يقولون: "ليس من شأننا".
مدرسة المنهج المؤسسي التاريخي (Historical Institutionalism): أما المدرسة الثالثة، فهي تُحب اللعب بورقة التاريخ. ترى هذه المدرسة أن الماضي يحدد الحاضر، وأن المستعمرات ذات المؤسسات الشاملة ازدهرت، بينما ظلت الأخرى فقيرة بمؤسساتها الفاسدة. وكما يقول دارون أوغلو وجيمس روبنسون في كتابهما "لماذا تفشل الأمم"، فإن القضاء على الفقر العالمي يبدو شبه مستحيل. لكن السؤال المحير يبقى: "وما الحل؟" لتجيب المدرسة بنبرة يائسة: "ربما لا يوجد حل".
قليل من التأمل كافٍ ليترك المرء في حيرة: هل علم الاقتصاد هو علم إيجاد الحلول أم علم تبرير المشكلات؟ يبدو أن المدارس الثلاث، تنجرف نحو تبسيط مفرط يُغفل تعقيد البشر والمجتمعات. والمفارقة الساخرة أن ما بدأ كعلم يسعى لفهم العالم تحوّل إلى وسيلة لتكريس مشكلاته! ويبقى السؤال معلقًا بلا إجابة: لماذا تفشل بعض الدول في تحقيق التنمية رغم التزامها بـ"الوصفات والتوصيات" ذاتها، بينما تنجح دول أخرى باتباع أساليب تبدو خارج نطاق المألوف؟
ويبدو أن الاقتصادية آنغ وضعت يدها على مكمن الخلل. إذ لاحظت أن هذه المدارس الثلاث، رغم اختلافاتها الظاهرة، تتشارك في خطأ جوهري - التفكير الخطي الميكانيكي. هذا النمط من التفكير يُبسط التعقيد إلى علاقة سببية مباشرة: سبب يؤدي إلى نتيجة. وكما أشار عبدالوهاب المسيري، رحمة الله عليه، بعمقٍ فكريٍ فريد:
" تذهب التفسيرية إلى أن الظاهرة الإنسانية مختلفة عن الظاهرة الطبيعية، وبالتالي لا يوجد قانون عام يسري على كل الظواهر، والسببية التي تسود العالم ليست سببية صلبة ("أ" تؤدي حتما إلى “ب”) بل هي رخوة ("أ" قد تؤدي في معظم الأحيان الى "ب" وقد تؤدي الى "ج" تحت ظروف أخرى)".
فكيف استطاعت الاقتصادية أن تصل إلى رؤية ديناميكية تجسد امتدادًا عمليًا لهذا الفهم الفلسفي -للمسيري- لفهم الاقتصاد؟ وكيف نجحت في ترجمة هذه الرؤية إلى تطبيقات عملية في حقل التنمية، لتوجه الاقتصاد السياسي نحو أفق أكثر شمولية وعمقًا، حيث يصبح الاقتصاد مجالًا لفهم التفاعل الديناميكي بين الأنظمة بدلًا من اختزاله في نماذج خطية جامدة؟
أصل الخطأ: الخلط بين "النظام المركب" و"النظام المعقد-العضوي"2
البداية كانت إدراك الخلط بين نوعين مختلفين من الأنظمة: النظام المركب (Complicated) والنظام المعقد-العضوي (Complex). وهو خلط لا يقتصر على كونه مجرد سوء فهم اصطلاحي، بل يعكس تحيزًا للتفكير الميكانيكي الخطي، الذي يفترض خطأً أن كل نظام معقد هو في الحقيقة نظام مركب يمكن تفكيكه وفهمه بطرق ميكانيكية. فالنظام المركب (Complicated) يشير إلى أنظمة يمكن تفكيكها إلى أجزاء مستقلة يمكن دراستها وفهمها منفصلة عن بعضها البعض. مثل محرك السيارة إذ يؤدي كل جزء وظيفة محددة، وتحليل الأجزاء تحليلًا منفصلًا يكفي لفهم النظام بأكمله. بينما النظام المعقد-العضوي (Complex) على العكس-، إذ يتكون من مكونات مترابطة عضويًا، بحيث تؤثر الأجزاء على بعضها البعض بطرق ديناميكية وغير متوقعة. كالغابات أو المجتمعات البشرية، حيث العلاقات بين الأجزاء هي التي تشكل الكل. في مثل هذه الأنظمة، لا يمكن فهم الكل بمجرد تحليل الأجزاء الُمستقلة (هذا لا يعني أن الأنظمة المعقدة-العضوية لا يمكن دراستها بسبب تعقيدها، لكن دراستها تتطلب أدوات ونماذج ديناميكية وتحليل التفاعلي).
معالجة الخلط: البوابة نحو مفهوم "التطور المشترك"
كان التمييز بين النظام المركب والنظام المعقد-العضوي بمثابة البوصلة الفكرية التي وجهت الباحثة نحو تطوير رؤيتها لمفهوم "التطور المشترك" (Co-evolution). هذا الإدراك لطبيعة الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية كأنظمة معقدة-عضوية مكنها من تجاوز الأطر الخطية التقليدية، ساعدها في وضع نهج جديد لفهم التنمية كنظام حي يتطور عبر تفاعلات ديناميكية مستمرة بين الأسواق والمؤسسات.
ففي الأنظمة المركبة، يمكن التعامل مع كل مكون ككيان مستقل، وتحليل الأجزاء منفصلة يكون كافيًا لفهم الكل. لكن في الأنظمة المعقدة-العضوية، هذا النهج يصبح غير صالح؛ لأن المكونات مترابطة ترابطًا ديناميكيًا، وأي تغيير بسيط في جزء يمكن أن يعيد تشكيل الكل جذريًا. هنا، أدركت الاقتصادية أن فهم التنمية لا يمكن أن يستند إلى تفكيك العناصر وتحليلها بمعزل عن السياق، بل يحتاج إلى منظور شامل يراعي العلاقات الديناميكية والتفاعلات المستمرة بين مختلف العناصر. بهذه الرؤية، تمكنت من صياغة إطار جديد يضع الأنظمة الاجتماعية في مركز فهمنا لعملية التنمية.
جوهر التطور المشترك
مفهوم "التطور المشترك" يقوم على فكرة أن الأسواق والمؤسسات لا توجد في عزلة، ولا يمكن لأحدهما أن يسبق الآخر بشكل دائم أو مطلق، بل هما عنصران متكاملان في عملية تفاعلية دائرية تتسم بالمرونة والتكيف المستمر. العلاقة بينهما ليست أحادية الاتجاه أو سببية بسيطة، وإنما شبكة ديناميكية حيث يُعيد كل طرف تشكيل الآخر باستمرار.
قد تنشأ الأسواق في البداية من ممارسات غير رسمية أو مؤسسات "ضعيفة" نسبيًا3، ولكنها تُولّد احتياجات جديدة تدفع نحو تطوير المؤسسات. هذه المؤسسات، ومع مرور الوقت، تصبح أكثر نضجًا، مما يمكنها من إعادة تشكيل الأسواق وتعزيز تعقيدها بطرق تتجاوز التوقعات الأولية.
"الاقتصاد التكيفي" على أرض الواقع
التجربة الصينية:
تمكنت من التكيف مع احتياجاتها الاقتصادية المتغيرة خلال فترة إصلاحاتها في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات. بدلاً من بناء مؤسسات جديدة وفق المعايير الغربية، اعتمدت الصين على مؤسساتها القائمة مثل الحكومات المحلية ونظام الملكية الجماعية للأراضي. فعلى سبيل المثال، سمحت السلطات المحلية باستخدام الأراضي المملوكة جماعيًا لدعم المشاريع الصغيرة وريادة الأعمال. رغم أن هذه المؤسسات بدت "ضعيفة" في البداية، إلا أنها وفرت مرونة ساعدت على تلبية الاحتياجات الاقتصادية الفورية. مع مرور الوقت، تطورت هذه المؤسسات لتعزز النمو وتدعم الأسواق الناشئة، مما خلق نظامًا اقتصاديًا أكثر ديناميكية وابتكارًا. (فيديو تتحدث فيه الاقتصادية آنغ عن التكيف السياسي في الصين).
نوليوود: الابتكار من الفوضى
في نيجيريا، يقدم قطاع الأفلام المعروف باسم "نوليوود" مثالًا آخر على التطور المشترك، ولكنه يختلف جذريًا عن النموذج الصيني. إذ نشأ القطاع عفويًا، مستندًا إلى جهود شعبية وشبكات غير رسمية، دون تدخل حكومي أو وجود بنية تحتية قوية. رغم الفوضى الظاهرة، نجح القطاع في تلبية الطلب المتزايد على المحتوى الترفيهي، ليصبح صناعة اقتصادية وثقافية مؤثرة تُعيد تشكيل الهوية النيجيرية، وتوفر فرص عمل لملايين الأشخاص. نوليوود يوضح كيف يمكن للابتكار أن ينبع من بيئات غير منظمة، عبر ديناميكيات التفاعل بين المبادرات المحلية والطلب العالمي.
الختام: رؤية حية تتحدى الاختزال
مفهوم "الاقتصاد السياسي التكيفي" الذي تقدمه آنغ ليس مجرد إطار نظري جديد يُضاف إلى مكتبة الأفكار الأكاديمية، بل هو دعوة جريئة لإعادة التفكير في كيفية فهمنا للأنظمة الاقتصادية والاجتماعية. إنه رؤية متكاملة ترى هذه الأنظمة ككائنات حية نابضة بالتغيير والتطور، وليست مجرد آلات ميكانيكية تخضع لقواعد ثابتة وسيناريوهات معدة مسبقًا.
ما يميز هذه الرؤية هو رفضها الواضح للتفكير الخطي الذي يختزل التغيير في سلسلة من الأسباب والنتائج المحددة مسبقًا. بدلًا من ذلك، تدعو آنغ إلى فهم أكثر شمولية وديناميكية، حيث تُعاد صياغة التنمية لتكون نظامًا حيًا وعضويًا. في هذا النظام، لا يُفرض التغيير من الأعلى عبر خطط جامدة، بل ينشأ من التفاعل المستمر بين مكونات متعددة تشمل الأفراد، الأسواق، والسياسات. التنمية هنا ليست عملية ثابتة أو نسخة مستنسخة من تجارب الغير، بل حركة ديناميكية تتكيف مع احتياجات وتحديات كل سياق محلي. والحلول الناجحة يجب أن تنبع من واقع المجتمع المحلي واحتياجاته الفريدة، لا من محاولات تقليد نماذج خارجية قد تكون غير ملائمة. وفي هذا الإطار، ما يراه الغرب كفوضى أو عائق قد يكون في الواقع بيئة خصبة للإبداع، حيث تزدهر الابتكارات في بيئة حرة وغير مقيدة.
المسيري: رؤية فذة سبقت زمنها
كان عبدالوهاب المسيري -رحمة الله عليه- قد سبق آنغ برؤيته المركبة لفهم الظواهر الإنسانية، التي تعي أن العالم الاجتماعي ليس مجرد 'آلة مادية' يمكن تفكيكها وإعادة تركيبها، بل هو شبكة معقدة من العلاقات المتشابكة التي تترابط بطريقة عضوية. إذ يرى أن:
" النموذج الاختزالي هو رصد يتم عادةً من خلال بعض القوالب الادراكية الشائعة التي لا ترى إلا الظاهر ولا تتجاوز السطح لتصل إلى شبكة العلاقات المركبة التي تعطي لكل ظاهرة إنسانية هويتها وملامحها ومنحناها الخاص… تتميز النماذج المركبة بأنها لا تسقط في تصور أن ثمة علاقة سببية بسيطة بين بناء تحتي (مادي واقعي) واخر فوقي (فكري وهمي) فهي تصدر عن الإيمان بأنه توجد علاقات مركبة لأقصى حد بين عناصر فكرية وأخرى مادية، وهذه العلاقة ليست مركبة وحسب وإنما إحتمالية كذلك."
آنغ لم تكتفِ بنقد النماذج السائدة، بل قدمت تصورًا جديدًا يتجاوز الحتمية الخطية ويفتح الباب لفهم أكثر ديناميكية وتعقيدًا. بل أرى فيما قدمته الاقتصادية ما يُمكن اعتباره تطبيقًا عمليًا لرؤية المسيري المركبة في سياق الاقتصاد السياسي والتنمية. وعسى أن يكون "الاقتصاد السياسي التكيفي" بداية الطريق. والأمل معقود على أولئك الذين يرون في هذا التعقيد فرصة، لا عبئًا، ويستجيبون لنداء المسيري حين قال:
"الفكر العربي أحوج ما يكون إلى هذا التحليل المركب للظواهر الإنسانية حتى لا يقع في إسار الحتمية، وبالتالي البغبغائية والنقل عن الآخر دون نقد أو تحليل"؟
Ang, Y. Y. (2023). Adaptive political economy: Toward a new paradigm. World Politics, 75(5), 1–18. Retrieved from https://papers.ssrn.com/sol3/papers.cfm?abstract_id=4813107
ترجمة المصطلحات اجتهاد شخصي
ترى الاقتصادية في وصف "ضعيفة" تحيزًا لمعايير العالم الغربي اليوم، وهذا تحيزًا يُعيق التنمية ويُكبل الدول بالمتطلبات الغير واقعية.
إن كنت مهتمًا…
بفهم أعمق لأفكار الاقتصادية آنغ وبالأنظمة المعقدة، أنصحك بمشاهدة محاضرتها
"DLD Annual Lecture 2024: Adaptive Political Economy: Toward a New Paradigm"
، التي ألقتها في جامعة SOAS. في هذه المحاضرة، تناولت آنغ ورقتها بعمق أكبر، مضيفة أبعادًا جديدة لرؤيتها. كما كان النقاش الذي تلا المحاضرة، خاصة فقرة الأسئلة، مثريًا ومليئًا بالأفكار التي تُضيء المزيد من زوايا هذه النظرية العميقة. إنها محاضرة تستحق المتابعة لمن أراد التعمق في فهم الاقتصاد السياسي التكيفي.