النقل التقني للمنطقة العربية بعد حرب الخليج
مختارات لا تنضب | نُشر في كتاب "البركان" الصادر سنة ١٩٩٢ عن الشركة السعودية للأبحاث والتسويق بغرض استقراء مستقبل المنطقة العربية بعد حرب الخليج
مقدمة
طبعًا، الصناعات الاستراتيجية في مجلس التعاون مهمة... ومهمة جداً بعد حرب الخليج... وقبل حرب الخليج، هذا من جهة، ومن الجهة الأخرى، ترتبط صفة الاستراتيجية بالهدف الذي تسعى لتحقيقه أي أن صناعات معينة تصبح استراتيجية عندما يحتاج تحقيق هدف معين لتطوير الصناعات... مفهومة كانت أم قابلة، بسيطة أو معقدة، في هذا المجال، أو ذاك. لهذه الأسباب، وحيث أني قبلت الدعوة للكتابة، فضلت تقديم هذا المقال تحت عنوان آخر هو «النقل التقني للمنطقة العربية بعد حرب الخليج».
ومع بداية تأمل اختيار هذا الموضوع تبين أنني أوقعت نفسي في دوامة فكرية تتصل بمعنى «التقنية»... ما هو تعريف التقنية؟ هناك طبعاً تعريف شائع وهو يركز على «أسلوب الإنتاج» أو طريقة الإنتاج خلال المرحلة التي يمر بها الإنسان. ولكل مرحلة أسلوبها و مواصفاتها ومستوى المعرفة السائد خلالها. الإنتاج - سلعة أو خدمة - هو محل التقنية ومجالها في إطار التعريف الشائع لها.
هذا هو ما تعودنا على تجربته وفهمه وتعلمه. ما هي المشكلة؟ هذا التعريف الذي يربط التقنية بالإنتاج - كما أجدُه - محدود قاصر يأخذ من التقنية في تقديري أبعادًا أخرى عديدة. لماذا الإنتاج أو أساليب الإنتاج فقط؟
التقنية - كما أراها - تشمل كل ما يتصل بوجود الإنسان على هذه الأرض خلال المرحلة التي يتواجد فيها على هذه الأرض. هي «المجموعة Set» التي تضم العناصر «أسلوب وطريقة وفلسفة الإنتاج» خلال المرحلة. لا تقتصر على الإنتاج بل هي شاملة تغطي الإنتاج والاستهلاك والعلاقات الإنسانية والفلسفات السياسية والاقتصادية. وكل جوانب الحياة التي تسود في الفترة الزمنية التي يعيشها الإنسان. هذا الرأي يقود إلى تعريف شامل للتقنية. وقد يجد هذا الرأي من لا يوافق عليه. وربما يكون عدم التوافق هذا على التسمية، الكلمة: «التقنية». لكن هذا الخلاف يتصل بالمظهر أكثر من اتصاله بالجوهر، ففهم الشمولية تصل بجهتين في أن واحد: حضارة الفترة وثقافتها.
وكلنا نتفق على حقيقة واضحة هي أن لكل مرحلة من مراحل وجود الإنسان على هذه الأرض أسلوبًا أو هيكلاً يكون من معدلات كثيرة تنظم العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، تنظم حياة الإنسان خلال المرحلة التي يتواجد فيها. هذه هي المجموعة Set التي تسميها التقنية التي تسود تلك المرحلة. ولمن يرغب أن يسميها إسماً آخر يظل الجوهر كما هو.
إن العدوان العراقي البغي الذي انطلق من العراق ضد الكويت، وما تبع ذلك من أحداث وتطورات، والطريقة التي عوقب بها هذا العدوان وما نرى اليوم من إصرار على تحطيم قدرات العراق المادية والعلمية، كل هذا عصف بالمنطقة العربية بأكملها، كما أن الآثار السياسية والاجتماعية والاقتصادية ستبقى تظللها وتتعرض لها في كيانها لعقود كثيرة قادمة. ولكن ما هو “مستقبل المنطقة العربية في ضوء حرب الخليج1؟”... علم ذلك عند الله. فالتنبؤ بأي مستقبل مغامرة ليس من الحكمة الإقدام عليها، فما بالك عندما يكون هذا التنبؤ من منطقة يحكمها المزاج الشخصي أو الغباء الذهني أو الإثنان معاً وتتلسط على معظمها نظم تضع مصلحة النظام الحاكم فوق كل مصلحة بما في ذلك مصلحة الأمة مجتمعة، ولا تحترم الإنسان «كشيء حي» أو حقوقه «كشيء يفكر ويشعر».
النقل التقني
الكتابة عن «النقل التقني للمنطقة العربية بعد حرب الخليج» يحتاج إلى مقدمة... والمقدمة لهذا الموضوع الهام لا بد وأن تتطرق إلى جوانب عديدة فكرية وثقافية وحضارية (نظرة تاريخية تحليلية) ولعل المساهمين في هذا الكتاب تناولوا الجوانب بأسلوب أو آخر. وللتعرف على إمكانية النقل التقني في المستقبل لا بد من إلقاء نظرة واسعة على الأوضاع الحالية في عالمنا العربي بعد حرب الخليج.
لقد سيطر العالم الغربي وعلى رأسه الولايات المتحدة (وهؤلاء هم أصحاب التقنية الحديثة) على العالم بصفة عامة، وعلى منطقتنا العربية بصفة خاصة، من الناحية العسكرية (كارثة الخليج بوتقة النظام الدولي الجديد). وليس مبالغة القول إن الأمة العربية من المحيط إلى الخليج تكاد تكون «مستعمرة» أواخر القرن العشرين. وربما هي «المستعمرة» الوحيدة في أواخر القرن العشرين. كذلك سيطر العالم الغربي (عالم التقنية الحديثة) على العالم العربي سياسياً واقتصادياً وإعلامياً وثقافياً وفكرياً وعلى أسلوب الحياة اليومية إلى حدٍ كبير. ونشر آراءه ونظرياته وفلسفاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية كأنها أصبحت مصدر العلم والثقافة والإبداع. وصارت الشهادة من جامعة غربية أو جامعة أنشئت على نموذجها هي الطريق إلى المنصب والمكانة والأهمية في المجتمع.
ما هي التقنية؟ يمكن إعطاء تعريف شامل - ماكرو - للتقنية عموماً بأنها مجموعة الأسس التي تحكم وتسير المرحلة التي يعيش فيها الإنسان. وهذا التعريف التقني يعطيها بعداً زمنياً ويربطها بتاريخ الإنسان وتطور وجوده على سطح الأرض. علىن أن التقنية تعريفاً تعدداً يرتبط بالحقبة السائدة في فترة محددة، ومن هنا يتكلم الكتاب عن «التقنية الحديثة»، وهذا ما سنعود إليه بعد الانتهاء من هذه المقدمة.
ومع التعريف الشمولي للتقنية لا شك أن التقنية المسيطرة على هذا العالم شماله وجنوبه، غربه وشرقه، هي تقنية العالم الغربي وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية. هذه التقنية الغربية تقنية علمية موضوعة، بدأ تطورها مع بداية القرن السابع عشر الميلادي (أو حوالي ذلك) في أوروبا في الفترة التي وصفها البعض بعصور الظلام!! في تلك الفترة، وما تلاها، بدأت التقنية العلمية الموضوعة في أوروبا وأخذت في الانتشار مع اكتشاف الأمريكتين ومع التوسع الاستعماري إلى القارات الأخرى.
ومنذ ذلك الوقت يدور الصراع بين تلك التقنية - بمعناها الشمولي - وبين التقنيات المرسلة2.
على أن الانطلاقة الفعلية للتقنية العلمية الحديثة كان مع بداية القرن العشرين، مع الانطلاقة في استعمال الطاقة المستمدة من البترول والغاز وتسخيرها لتشغيل الآلة... ثم صنعت السيارة ثم الطائرة ثم وسائل الاتصال السلكي واللاسلكي ثم وسائل الاتصال والنقل حتى عصر الإلكترونيات. ومع هذه الانطلاقة الدائمة حدثت الانطلاقة الأيديولوجية والصراع بين الرأسمالية والشيوعية والنزعات القومية والوطنية.
لقد نظر بعض المنظرين - وهم من نتاج التقنية العلمية - في تطور الإنسان منذ أن وضعه الخالق على سطح الأرض من حيث المراحل التقنية - مجموعة الأسس التي تحكم وتسير المرحل التي يعيش فيها - التي مرت به على أنهـا ثلاث. المرحلة الأولى هي مرحلة اللا تقنية؛ فلقد جعل الله في السماء بروجًاوزينها للناظرين. وخلق الأرض ومددها وألقى فيها رواسي، وجعل فيها معايش حيث أنبت فيها كل شيء. جعل فيها فاكهة ونخل ذات أكمام وحبًا ذا عصفٍ ورَيحان. سخر كل ما في الأرض لما يحتاجه إنسان ليعيش ويستمر. وأرسل الريح وأنزل من السماء الماء، ثم خلق الله الإنسان البشر على هذه الأرض ونفخ فيه من روحه. «ولقد خلقنا الإنسان من صلصالٍ من حمأٍ مسنون» (سورة الحجر 26).. ولقد خلق الله الإنسان على هذه الأرض ولم يكن ذا علم أو معرفة، ودون أي تقنية، ودون قواعد أو نظم. وظل الإنسان البشر، هائمًا يعيش على هذه الأرض سنين وسنين لا يعلم عددها إلا الله سبحانه.
خلق الله الإنسان على الأرض وجعل فيها خليفة علمه الأسماء كلها، وهبط آدم إلى الأرض ﴿قلنا اهبطوا منها جميعًا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾ (سورة البقرة / 38).
المرحلة الثانية فهي مرحلة التقنية المرسلة حيث بين الخالق للإنسان كل شيء، وأوضح أسس الحياة والعلاقات الاجتماعية والعائلية والسياسية. ومع تطور هذه التقنية اتسعت دائرة الأمور التي تنظمها وأصبحت تشمل علاقة الإنسان بنفسه وأفكاره الشخصية، واستمر تطور هذه التقنية حتى بلغت أوجها وقمتها. وقد أكمل الخالق للإنسان دينه.
وفي حين كانت نقطة انطلاق التقنية الحديثة (العلمية) أوروبّا كانت نقطة انطلاق التقنية المرسلة الشرق الأوسط، عالمنا العربي.
إن الله سبحانه وتعالى خلق هذا الكون ووضع له القوانين، خلق كل شيء بقدر، وخلق الإنسان وعلمه بالقلم، ما لم يعلم، وعلمه البيان. والعلم هو طريق الوصول إلى قوانين الله في ملكوت الكون والتعرف عليها. العلم هو المعرفة. ﴿وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب﴾ (الشورى / 14).
وبدأ بمرحلة اللاتقنية وحتى وصولنا إلى تقنية القرن العشرين نواجه بظاهرتين. الأولى هي التداخل بين المراحل الثلاث باعتبار أن التطور والتغير كان تدريجيًا. فالانتقال من مرحلة إلى أخرى لم يحدث انقلابًا وإنما كان تصاعدًا انطلاقًا ينتشر مع مرور الزمن، وكنتيجة لهذا، نجد التداخل مستمرًا إلى وقتنا الحاضر. فهنالك مناطق ثانوية حتى وقتنا هذا ما زالت في مرحلة "اللاتقنية". كذلك، وباعتبار أن التقنية العلمية ما زالت في طفولتها، تسيطر التقنية المرسلة على قطاعات كبيرة في العالم، أما الظاهرة الثانية فتمثل في المقاومة التي تهديها كل مرحلة للمرحلة التالية. ومع أن الانتقال من مرحلة لأخرى لم يحدث انقلابًا، إلا أنه لم يكن سلميًا كذلك. لا شك أن الإنسان لا زال في
مرحلة اللاتقنية، قاوم بدرجة أو أخرى حدوث التغيرات، وتستمر المقاومة.
ولكل مرحلة تقنية خصائصها وميزاتها الذاتية، وفلسفتها وطريقة عملها، والأسس التي تقوم عليها (مايكرو). وحيث أن موضوع هذا المقال هو نقل التقنية (الحديثة)، فإن التركيز، في هذه المقدمة، سيكون على بعض خصائص هذه التقنية... إن أول خصائص هذه التقنية الحديثة هو استنادها إلى الإنسان، أي أن تطورها يرجع إلى إبداعه وإنجازاته العلمية. فالملاحظة الاستنتاجية الذكية، والاكتشاف والاختراع والبحث - وهذه أمور يقوم بها الإنسان - مصادر الطاقة الدافعة لبقاء تلك التقنية واستمراريتها وتجددها. ولكي ينجح الإنسان في القيام بهذه الأمور لا بد من توفر المحيط المناسب لذلك. ومن هنا كانت التغيرات السياسية والاجتماعية التي حدثت في أوربا والولايات المتحدة وصاحبت ولادة ومن ثم طفولة وانطلاق هذه التقنية الحديثة.
إن قيام النظم الديمقراطية في الدول الغربية والولايات المتحدة (الشمال) كان شرطًا ضروريًا لنجاح (التقنية الحديثة)3. وقد أثبتت الأحداث الأخيرة في الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية والصين وعدد من الدول الأخرى، أنه لا يكفي وجود الرغبة في النقل التقني مهما كانت هذه الرغبة. فطالما أن الإنسان هو الأساس فلا بد من توفير المناخ المناسب لعمله وإبداعه. والديمقراطية شرط ضروري لذلك، ولكنه شرط غير كاف. فقد تكون هناك ديمقراطية - بشكل أو آخر - وينتخب في ظلها الشعب حكامه وممثليه، وتكرر المظاهرة مرات ومرات ومع هذا لا تجد التقنية الحديثة الإطار الملائم الذي تعمل فيه، لأن الإنسان ما زال غير قادر على الإنجاز والإبداع والبحث والاختراع... لماذا؟ لعدم توفر الشرط الكافي.
إن الشرط الكافي لنجاح الإنسان ليكون محركًا للتقنية العلمية الحديثة هو ضمان حقوقه كإنسان: يشعر ويفكر، يقرأ ويكتب، يعمل ويتحرك، وغير ذلك من الحقوق الأساسية للإنسان كما صاغتها أساسيات التقنية الحديثة. منذ انطلاق تلك التقنية العلمية ظهرت العبارات (دعه يعمل)، ر(دعه يتحرك أو يمر)، (دعه يفكر)...
("الديمقراطية") وما انبثق عنها واقترن بها من فلسفات ونظم اجتماعية أمور جديدة لم يكن لها وجود في ظل المراحل التقنية السابقة، بدأت التوجهات نحو الديمقراطية في أمريكا ومن ثم أوروبا (بريطانيا وفرنسا على وجه الخصوص) خلال مراحل الحمل والولادة للتقنية العلمية. الديمقراطية، وحواشيها، فكرة جديدة لم يكن لها وجود في ظل التقنيات السابقة. فمنذ متى كان الشعب ينتخب حكامه وممثلين له ومنذ متى أصبح الشعب يشارك في حكم شؤونه؟ فقط منذ قيام العالم الجديد في الولايات المتحدة الأمريكية ثم بعد قيام الثورة الفرنسية.
إن النظام الديمقراطي، وما يرتبط به، نظام دخيل ووضعي في عالمنا العربي، الكلمة في حد ذاتها لا يوجد مقابل لها في قاموسنا العربي (هذا إلا إذا قبلنا ما قيل عن "ديمومة والكراسي" كمقابل لغوي لها). وهو نظام جاء مع التقنية العلمية الموضوعة4… ليست من التقنيات السابقة. خلال عصورنا التاريخية لم يكن معنا غير "الإمام العادل" أو "الإمام الظالم"، ونحمد الله ونشكره على الإمام العادل، فالعدل أساس الملك. وفي عالمنا الشرق أوسطي هناك مصادر ثلاث للإمام عادلاً كان أو ظالماً... انظر إلى تاريخ المنطقة القريب منه والبعيد، ومنذ معاوية بن أبي سفيان. كيف جاء إمام المسلمين؟ في عصرنا الحديث، عصر الصراع مع التقنية العلمية جاء الحاكم - العادل أو غير ذلك - من أحد المصادر الثلاثة الآتية: الإرث - الانقلاب العسكري - التآمر، ودائماً ما يتستر القادم من المصدرين الأخيرين بستار الديمقراطية والاشتراكية وحماية حقوق الإنسان، وإتماماً لهذه الظاهرة تم تبني "دستور" للتغني به بعد وضعه في أدراج المكاتب، وتجري انتخابات التسعة والتسعين في المائة في نفس الوقت الذي تسيطر فيه السلطات التنفيذية بأجنحتها المختلفة وحتى قمة هرمها عادلاً كان أو ظالماً على كل صغيرة وكبيرة في مسارح العمليات بما في ذلك التشريع والقضاء. وتوضع الحدود لمناطق النفوذ التي تشمل التعريفات المطاطية للديمقراطية والاشتراكية وحقوق الإنسان، وكل شيء تحت راية الدستور والقانون والنظام، ومع احتكار صلاحيات التفسير وسلطات التطبيق.
تلك هي مصادر "الإمام" في عالمنا العربي... وأنت وما أراد الله لك. أما الخاصية الثانية للتقنية الحديثة فهي سرعة التغيير. فلقد كانت بداية التقنية العلمية متواضعة وتطورها بطيئًا، استمرت طفولتها حتى بداية القرن العشرين، ثم كانت الانطلاقة، وطبقًا لمتوالية هندسية. وخلال العقود الستة الأخيرة من هذا القرن -القرن العشرين- سيطرت هذه التقنية العلمية على العالم، وبالرغم من هذا الانتشار وبالرغم من هذا التغلغل ما زالت هذه التقنية في بداية طريقها، في طفولتها. بل في مرحلة الرضاعة من حيث السن... هي كـالسرطان ينتشر ويتمكن مع الوقت.
إن الخوف كل الخوف أن يأتي يوم، ليس بالبعيد، تصبح فيه شعوب التقنيات السابقة (الجنوب) مسيرة بأجهزة توجد في أماكن تبعد آلاف الأميال: إما في الفضاء أو في قيعان البحار أو في مراكز تحكمٍ وسيطرة على هذه الأرض5. لقد طغت علينا، وعلى معظم شعوب العالم هذه التقنية الموضوعة، على التقنيات السابقة المقاومة أو التكيف واللحاق لأن من أهم خصائص هذه التقنية العلمية هو سرعة التغيير.
إن ما حدث خلال الثلاث والخمسين سنة الماضية يفوق التغيرات التي حدثت خلال كل الآلاف من السنين السابقة مهما كان القياس المادي الذي يُستخدم لقياس هذه التغيرات المادية.
وفي جيلنا نحن -أنت وأنا- ماذا حدث؟ بل خلال السنوات العشرين أو حتى العشر الأخيرة، ماذا حدث؟ كيف سيكون الوضع في سنوات الألفين الميلادية؟ أين سيكون عالم التقنية العلمية وأين سيكون عالم التقنية العلمية وأين سيكون عالم التقنيات الأخرى؟ أين سيكون عالمنا العربي؟6.
ومن خصائص التقنية العلمية - أو التقنية الحديثة - استعمال رأس المال، الآلة، في الإنتاج... استعمال المكائن والآلات، أي تسخير المادة حيث أصبحت عنصراً إنتاجياً. فاستخدام الآلة في الإنتاج وما يعنيه ذلك من تسخير للطاقة الميكانيكية، والإنتاج في المصانع، وتوسيع الأسواق، وتقليل العمالة، كل ذلك جديد حطّم الاستمرارية القديمة لأساليب الإنتاج والحياة في ظل المراحل التقنية السابقة. ويُقدّر أن ما أُنتج خلال المائة السنة الماضية فقط كان يساوي أضعاف ما حققه الإنسان خلال آلاف السنين السابقة عدداً من المرات. كما أن الإنتاج الصناعي تضاعف ربما مائة مرة خلال هذه الفترة. كل هذه بسبب استخدام الآلة وهي ما طوره "الإنسان" في ظلال التقنية العلمية.
استخدام الآلة في الإنتاج هو ما أصبح يُسمى «الثورة الصناعية» التي بدأت في بريطانيا ثم انتشرت في أوروبا والولايات المتحدة... استخدام الآلة في الإنتاج هو ما أصبحت دول العالم النامي تُطلق عليه «التصنيع»، وأصبح الرديف لكلمة «التقنية الحديثة». مع أن استخدام الآلة ليس إلا أحد خصائص هذه التقنية العلمية، فهو جزء من كل.
عند الحديث عن النقل التقني نحن في عالمنا النامي نقصد طريقة الإنتاج - مايكرو - لا أكثر ولا أقل، ولذا يقتصر تعريف التقنية في قاموسنا العربي على الجوانب الإنتاجية من التقنية العلمية بما فيها الشمول الذي سبق الحديث عنه (أي المايكرو).
الصراع التقني
منطقتنا - منطقة الشرق الأوسط هي المنطقة التي بدأ فيها الإنسان والتي انطلقت منها الأديان. جميع الرسل والأنبياء، جاؤوا من هذه المنطقة. ومنها انتشرت الحضارات والمعارف، في شمالها العراق وبلاد الشام وفلسطين ومصر، وفي وسطها وجنوبها، شبه الجزيرة العربية - تجد مواطن الديانات وأوائل الحضارات- لآلاف وآلاف من السنين كانت هذه المنطقة هي المسيطرة على العالم وكانت هي مصدر التقنيات.
ثم بدأت انطلاقة العلوم الحديثة في الجانب الشمالي من الكرة الأرضية، وبدأ ما أطلق عليه «التقنية» العلمية أو الحديثة. وبدأ الصراع بين الشمال وبين منطقتنا ووضعت المخططات الاستعمارية التآمرية التي تهدف إلى إبعاد هذه المنطقة عن التقنية العلمية ما أمكن. فهذه المنطقة تشكّل تهديدًا جادًا للشمال وتقنيته. تهديدًا ليس له مثيل من أي منطقة أخرى باعتبار العمق الديني والحضاري لها. وازداد الخطر وتعاظم مخطط التآمر مع تبين أن المنطقة غنية بموارد أساسية لتحريك آلة التقنية الحديثة، وليس من باب الصدفة أو الخيال العلمي ما قام به الشمال من تثبيت المنطقة إلى دول ودويلات يتضمن تركيب كل منها بذورًا لنشر العداء والتفكك بينها. وليس من باب الصدفة أو الخيال العلمي زرع "دولة" صهيونية في قلب المنطقة مصدر الأديان والحضارات.
وازدادت الشراسة. ومع ظهور أي عنصر جديد يرى الشمال فيه إمكانية تساعد انطلاق المارد الجنوبي تجد ردة الفعل التي تيعد هذا الجنوب ليس فقط إلى مكانه السابق بل إلى موقع أبعد... وفي جميع الحالات تكون آثار ردة الفعل عميقة ليس فقط على دولة واحدة، وإنما على كل المنطقة وليس فقط من الناحية العسكرية أو الاقتصادية أو السياسية، وإنما على جميع المستويات في وقت واحد. إن كانت عسكرية فلها جوانبها الاقتصادية والسياسية. وإن كانت اقتصادية فلها جوانبها العسكرية والسياسية... وهكذا كارثة الخليج وما نتج عنها من آثار عسكرية واقتصادية وسياسية توضح مثل على ردة الفعل الأخيرة لِمَلَكِ الشمال والتقنية العلمية ضد عالم التقنيات السابقة. هدف ردة الفعل هذه في النهاية هو تحطيم قدرات الأمة العربية الاقتصادية والعسكرية وتفتيتها سياسيًا وإرجاعها عشرات السنين إلى الوراء حيث تبدأ متواليتها الهندسية من حد أصغر بكثير مما كانت قد وصلت إليه قبل الكارثة، وفي نفس الوقت تستمر الموالية الهندسية للنمو في عالم التقنية الحديثة إلى التضاعف بعد الحد الضخم الذي وصلت إليه7. وهكذا تزداد الفجوة أكثر فأكثر، مقارنة بما كانت ستؤول إليه لولا كارثة الكوارث، إن ردة الفعل الأخيرة - كارثة الخليج - أعادت المنطقة إلى موقع في الخلف أبعد مما كانت عنده قبل الكارثة... إلى «عصر ما قبل الثورة الصناعية»، وعلى المنطقة أن تبدأ من جديد إن استطاعت.. ويتضح لنا الآن يوماً بعد يوم أن الهدف الأول لما حدث كان تحطيم ما تم الحصول عليه من تقنيات علمية ومن ثم السيطرة على ما يمكن أن نحصل عليه مستقبلاً. وتصبح دولة الصهاينة هي المركز الأول للتقنية العلمية في منطقتنا، ويصبح الإنسان العربي كالأَسير محطم ذليل النفس والشعب العربي تحت الوصاية والرقابة. طبعاً كان هناك هدف آخر لما حدث... تحرير الكويت.
تقنية الإنتاج
عرّفت التقنية في بداية هذا المقال تعريفًا شموليًا بأنها «مجموعة الأسس التي تحكم وتُسَيِّر المرحلة التي يعيش فيها الإنسان». وفي مقابل هذا التعريف الشمولي، عادة ما تقتصر كلمة التقنية على الجوانب الإنتاجية. ويمكن اعتبار هذا التحديد للإطار الجزئي للتقنية (مايكرو). وبالنظر إلى الجوانب الإنتاجية المرتبطة بوجود الإنسان على هذه الأرض، نعرّف التقنية بأنها: «مجموعة المعارف والخبرات والمهارات اللازمة لإنتاج سلعة أو تقديم خدمة في مجالات الصناعة والزراعة والتشييد والمواصلات بل وحتى في مجالات الطب والتعليم». ومن هذا التعريف يتضح أن لكل فترة مرت على الإنسان، منذ أن وضعه الله على هذه الأرض، تقنية ابتدأت من مرحلة اللاتقنية.
والتقنية المسيطرة في عصورنا هذه هي ما وُصفناه «بالتقنية العلمية»، أو التقنية الحديثة للإنتاج (لسلعة أو خدمة) في الإطار الجزئي. ومن أهم خصائص هذه التقنية أن من يملكها قبل غيره يستمر في المقدمة سباقًا. ومن هنا كانت الصعوبات التي تواجه الدول النامية (أو دول الجنوب عمومًا). وتتناسب درجة التطور في التقنية مع المستوى الذي وصلت إليه ويحدث بمعدل أسرع في الدولة الأكثر تطورًا منه في الدولة الأقل تطورًا. ومن خصائص هذه التقنية الإنتاجية: استنادها إلى الآلات والمعدات لتُعطي طابعها فهي ميكانيكية الصفة، ولا تكون ذات فعالية وتواجد ملموس إذا لم يقترن وجودها بالتكوين الرأسمالي Hardware. ومع أن التقنية الحديثة للإنتاج تُغطي إنتاج أي سلعة أو خدمة إلا أنها ترتبط أكثر ما ترتبط بالإنتاج الصناعي لأسباب تاريخية تعود إلى الثورة الصناعية، وبداية عهد استخدام الآلة في الإنتاج والتطورات العميقة التي حدثت نتيجة لذلك من النواحي السياسية والاجتماعية.
التصنيع أو التنمية الصناعية يمثل عنصرًا واحدًا من التقنية الإنتاجية والتي هي بدورها مكوّن صغير — وإن كان مهمًا — من التقنية العلمية الحديثة. وتهتم الدول النامية عمومًا، ودول منطقتنا منها، بعملية التصنيع والتنمية لصناعية. فالقطاع الصناعي له آثار تنعكس على مجمل القطاعات الاقتصادية حيث إن لعملية التصنيع (مضاعف أو مكرر)، ينتج عن التشابك الأمامي والخلفي مع القطاعات الأخرى سواء إنتاجية أو خدمية. كما يؤدي التصنيع الذي يحدث على نطاق واسع إلى تمهيد الطريق لعمليات نقل التقنية العلمية وغزوها سواء أردنا ذلك أم لم نرد. ولعل التغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي حدثت في
الدول التي قطعت شوطًا في هذا المجال يضع بين أيدينا أمثلة. كما أن ما حدث في أوروبا مع دخول الثورة الصناعية وانطلاقها غني عن الذكر.
وحيث إن التصنيع هو عنصر من جزْء، من كل شامل هو التقنية العلمية الموضوعة، فإن نجاحه يرتبط بأساسياته (فلسفتها) التي تستند إلى الإنسان. ومن هنا كان ارتباط نجاح التصنيع بالحرية الاقتصادية والتملك الفردي والمنافسة مقارنة بامتلاك الدولة لقطاعات الإنتاج. فتحقيق التصنيع (بناء المصانع)، شيء، ونجاحه وتطوره شيء آخر. ويؤدي التصنيع الناجح إلى تحقيق أهداف عديدة منها ما هو اقتصادي ومنها ما هو سياسي ومنها ما هو اجتماعي. أولاً، يؤدي التصنيع إلى استغلال الموارد الاقتصادية الوطنية المؤثرة في الاقتصاد استغلالاً أفضل ويبرز ويطور الإمكانات الذاتية، ويعني هذا خلق قيمة مضافة لما كانت تُحقق في ظل بدائل أخرى. ويؤدي التصنيع ثانيًا إلى تنويع مصادر الدخل للاقتصاد الوطني عمومًا وللمواطن خصوصًا. فالدولة التي تعتمد على مصدر واحد أو مصدرين سيتوفر لها مصدر إضافي جديد. كان لـ المواطن الذي كان لا يجد فرصة عمل أو يجدها في قطاع زراعي مثلاً أو من خلال وظيفة حكومية سيتوفر له مجال جديد. بعبارة أخرى، يؤدي فتح مجال جديد لتوليد الدخل وتوفير فرص للتوظيف إلى رفع درجة الاستقلالية للوطن وللمواطن، وما يعنيه ذلك من انخفاض سيطرة الدولة على أرزاق الناس وحاجاتهم، وتظهر أهمية هذا الجانب بالنسبة للمواطن بالذات حيث تهتم الدول عادة بالتعليم مما يؤدي إلى تخرج أعداد متزايدة من المدارس المهنية والجامعات، ويمثل التصنيع اتفاقًا جديدًا لامتصاص
أعداد متزايدة منهم. ويؤدي التصنيع ثالثًا إلى رفع درجة الاستقلالية الاقتصادية – الأمن الاقتصادي – وتحقيق درجة أعلى من الاكتفاء الذاتي وتقليل الاعتماد على الغير، خصوصًا خلال الأزمات أو الحروب (لعل النموذج الألماني خلال الفترة 1933–1939 يعطي مثالاً على ذلك)، على أن هذا الجانب يعتمد بالدرجة الأولى على نوعية لتصنيع ودرجة نجاحه والأهداف التي يتوخاها. وفي نفس الوقت تؤدي التنمية الصناعية إلى دعم التكامل الاقتصادي مع القطاعات الاقتصادية الأخرى وزيادة استقلاليتها عن الاقتصاد الخارجي.
النقل التقني للمنطقة العربية
إن أول سؤال نطرحه في هذا المجال هو: هل نرغب في تحقيق نقل للتقنية العلمية الحديثة لمنطقتنا العربية أم لا؟ لابد من الإجابة على هذا السؤال بموضوعية وصدق. فقد يرى البعض – وربما كثيرون – أن من الأفضل حماية أنفسنا من ذلك. فهذه التقنية تتضمن الكثير مما يتعارض مع «مجموعة الأسس التي تحكم وتسير حياتنا» كما توارثناها لآلاف من السنين. وقد تكون للتقنية العلمية إيجابياتها الكثيرة، إلا أن لها في الواقع الجوانب السلبية كذلك. أما إذا
كان القرار إيجابيًا والعمل على تحقيق هذا النقل، فإن الأمر يحتاج إلى مجهودات كثيرة وعلى مختلف المستويات وأول هذه المجهودات توفير الشرط الضروري، والشرط الكافي كبداية.
وعلينا أن نتذكر أيضًا أن عملية النقل هذه ستبدأ من نقطة بعيدة كثيرًا عن المستوى الذي وصله مستوى تلك التقنية في عالم الشمال... هذا النقل سيضعنا في بداية طريق يُقدَّم عليه الآخرون بمسافات طويلة وستكون هناك فجوة ليس من المتصور تضييقها بل ستستمر في التزايد. كل ما في الأمر هو أننا سنكون على نفس الطريق. إضافة إلى ذلك لن يكون الشمال مخلصًا معنا في تحقيق نقل تقني عميق بسبب العداء التاريخي والخوف من انطلاق مارد الجنوب. انظر إلى منطقتنا العربية من المحيط إلى الخليج من حيث حجم السكان ومن حيث توفر الموارد الطبيعية ومن حيث الموقع الجغرافي ومن حيث العمق الثقافي والحضاري... فما بالك لو توفر لها الشرط الضروري والشرط الكافي، وما بالك لو بدأ نقل التقنية العلمية إليها؟
وقد فرضت التطورات التي حدثت في العالم مؤخرًا تحديات كبيرة على المنطقة العربية بصفة خاصة، وأهمها يتمثل فيما يلي:
الأول: التكتلات الاقتصادية العالمية العملاقة بين مجموعات من الدول بعضها وصل إلى مراحل متقدمة من التقنية العلمية. فهناك تكتل الدول الأوروبية وتكتل دول شرق آسيا ودول أمريكا الشمالية وعمليات الجذب التي تحدث لدول أوروبا الشرقية لتصبح جزءًا من التكتل الأوروبي الغربي. كل هذا حدث في الوقت الذي أخذت فيه المجموعة العربية في التفكك، وأخذت فلسفة الوطنية تُحلّ محل النظريات القومية.
الثاني: الوفاق الدولي وبروز ما سُمي بالنظام الدولي الجديد الذي يعني غياب توازن القوى العظمى وبالتالي احتكار التقنية العلمية والسيطرة عليها ومراقبة انتقالها. ومع أن هذا النظام العالمي الجديد مزاياه وفوائده من حيث السلم العالمي ومكافحة الإرهاب الدولي، وربما أيضًا من حيث حماية وضمان حقوق الإنسان (وعلينا أن ننتظر لمعرفة
ما إذا كان ذلك سيشمل عالم الجنوب أم أنه يقتصر على عوالم التقنية العلمية فقط)، إلا أن الخوف هو أن يؤدي هذا النظام إلى تأكيد الطبقية الدولية وتوسيعها والسيطرة على التدفق التقني، وعلى أسعار المواد الخام والمنتجات - زراعية أم صناعية - من دول العالم النامي، وأن يصبح هذا الأخير مصدرًا للعمالة الرخيصة ويزداد استغلال إنسانه يباع ويشترى بطريقة غير مباشرة «عبودية العمل Slave labour».
الثالث: مشاكل المياه في المنطقة العربية، وهي ستكون دون شك أم المشاكل في القرن الواحد والعشرين، وما يعنيه ذلك من تفاقم مشكلة الغذاء والتراث البيئي والصحي، كـما ستنتج عن هذه المشاكل حالات من التوتر السياسي بين بعض الدول في المنطقة قد يقود إلى احتكاكات عسكرية تُبعد المنطقة عن الاستقرار والأمن اللازمين لنقل التقنية وتحقيق التنمية الاقتصادية، ومسايرة النظام الدولي الجديد والتكتلات الدولية.
الرابع: تزايد الفجوة بين الشمال وبين الجنوب، ومنه أمتنا العربية، وقد سبقت الإشارة إلى هذه النقطة. فقد تنجح دولة ما من الجنوب في اكتساب تقنية ما في الوقت الذي تكون فيه هذه التقنية قد أصبحت عقيمة في الشمال. وقد تنشئ دولة في الجنوب مصنعًا تستورد كل آلالته ومعداته والمواد الخام المستعملة فيه ثم تنتج سلعة لا تُجد مشتريًا لها بسبب التغيرات التقنية التي حدثت... وربما تصنع السيارة بعد أن أصبحت من التحف التي يُنظر إليها باستغراب، وعندما نتمكن من إنتاج طائرة شراعية أو بمحركات مروحية من النوع المتطور، تكون دول الشمال قد وصلت إلى ما وراء المريخ.
الخامس: المدى الذي ستسمح به دول الشمال لتحقيق نقل التقنية الإنتاجية للمنطقة العربية. فالصراع بين الشمال وبين الجنوب سيستمر لأن مجموعة الدول الأولى تريد الإبقاء على مجموعة الدول الثانية سوقًا لمنتجاتها ومصدرًا لموادها الخام، وليس من المتصور أن النظام المالي الجديد سيعمل على تغيير هذا الوضع وإن قيل غير ذلك.
وبالنسبة للمنطقة العربية بالذات عمّقت كارثة الخليج الشعور بالخوف من انتقال التقنية للمنطقة.... كيف يسمح بهذا النقل لمنطقة تحكم معظمها بنظم، لا تحترم حقوق الإنسان، ولا تتمتع بالنضج بل تعكس تصرفاتها الكثير من لاستهتار ليس فقط بحياة الإنسان بل بوجود ومستقبل المنطقة والأمة، والسلام الإقليمي والعالمي. كيف يسمح لنظم كهذه بامتلاك تقنية إنتاجية يمكن تسخيرها للدمار. هل تستطيع المنطقة العربية استعادة مصداقيتها بحيث تصبح
جديرة ومحلا للثقة، هل تستطيع تحقيق ذلك وقد شاهدها العالم وهي تسبح بقلوب العذارى بل مئات الآلاف من أبنائها عيونها جافة وتُقام احتفالات في أماكن عديدة. ولقد قالها شوارزكوف: هؤلاء لا يساوون من نفس صنف الجنس البشري الذي نحن منه، أو ما في معناه.
تلك هي بعض أهم التحديات التي تواجه عالمنا العربي وهي مفروضة علينا، ولا بد من أخذها في الحسبان ومن ثم العمل للتغلب عليها بدرجة أو أخرى. على أن هناك ظروفًا داخلية لا بد من توافرها لتسهيل عملية نقل التقنية الإنتاجية الحديثة، وهي لا تعدو أن تكون جزءًا من كلّ من التقنية العلمية المسيطرة:
أولاً: يستند التطور التقني في كل زمان ومكان إلى الإنسان، وفي مرحلة التقنية العلمية المسيطرة، هي منه وهي له. العنصر البشري هو العامل الذي يجب أن تُوجَّه له المجهودات، لذا، يكون من الأولويات تعليم إنساننا العربي تعليمًا حديثًا قويًا ورفع كفاءاته العلمية. كما أن توفير المستوى المعيشي المناسب والحياة الاجتماعية الكريمة له ولأبنائه وأهله واحترام حقوقه كإنسان، أمور يجب ضمانها قبل الحديث عن النقل التقني أو العمل على تحقيقه. كيف لنا أن نتوقع أن يقوم مواطن جائع أو مهدد مهرب أو مراقب مقيّد الحركة والفكر بالإبداع والابتكار أو الإنتاج في أي جانب من جوانب العلم أو الثقافة أو الفكر. الإبداع يأتي مع الأمن والحرية، وكذا النقل التقني إذا كان الهدف جوهره لا شكله وقشوره.
ثانيًا: توفير البيئة المناسبة ويتحقق هذا بتطوير الأنظمة والقوانين والمؤسسات المتصلة بتشجيع الإبداع والابتكار وتوفير الحوافز المادية والمعنوية لذلك. وقد تنبّهت دول عالم الشمال لهذا الجانب منذ السنوات الأولى للتقنية العلمية كما أنها تعمل حتى وقتنا هذا على اجتذاب العقول والكفاءات من كل مكان وتوفر لها الحياة الكريمة، وتحفظ حقوقها الإنسانية. ولا شك أن عالم الشمال استقطب الكثير من العقول العربية التي يمكن استعادتها بتوفير المناخ المشجّع للجذب المعاكس وإيقاف الاستنزاف إلى ومن عالمنا. لا بد من إقامة مراكز البحث العلمي والمعاهد المتخصصة التي تتعدى مرحلة كونها مبانٍ تمثل إنجازات معمارية لا أكثر، والإنفاق عليها بسخاء (ليس على البناء) مع توفير الأجواء المناسبة وإبعادها عن تدخلات الحسوبية والنفوذ والطبقية. الطريق هنا طويل ويستدعي البذل وهو استثمار للمستقبل وللأجيال القادمة.
ثالثًا: ولا يقل أهمية عن توفير البيئة المناسبة للإنسان توفير البيئة المناسبة لرأس المال الخاص، وهو نقدي في معظمه. فهذا المال يمكن أن يصبح عنصرًا أساسيًا من عناصر الإنتاج وذلك بتشجيعه على التحول من أرقام وأرصدة في البنوك المحلية والخارجية إلى آلات ومعدات ومبان وتجهيزات تعمل وتنتج. وتحقيق هذا التحول يتطلب الدعم والتشجيع وتوفير المحوافزات والحماية وتقليل المخاطر التي سيتعرض لها بالضرورة، ورأس المال الطليق في معظم عالمنا العربي خاص، يملكه أفراد رجال أعمال، وهذه ميزة كبيرة لأن التقنية العلمية الحديثة هي بطبيعتها خاصة تعتمد على إبداع الإنسان الفرد وابتكاراته وهدف تحقيق الربح والمنفعة وتعظيمها. وإذا كانت المنطقة العربية
ترغب في تحقيق نقل مناسب في مجال الإنتاج فلا بد من تحريك الطموحات الفردية ورأس المال. ومن أساليب التشجيع إعانات الإنتاج والحماية من المنافسة الأجنبية وإعانات التصدير والإقراض الذي يساهم في تحمّل المخاطر وتدريب العاملين وتسهيل الإجراءات، والقائمة طويلة وملموسة. لابد من توفير المحيط الذي يشجع على بروز وظهور وبقاء «المنظم»، رجل الأعمال أو رجل فكر الأعمال والشركات التي تتعرف على الفرص وتقوم بالبحث واحتضان الكفاءات الوطنية وتطويرها. لا بد من تحقيق الترابط والتعاون بين مراكز ومؤسسات البحث العلمي وبين قطاع الأعمال دون فرض الوصاية على أي منهما. الهدف هو الإنتاج لتحقيق الربح من جانب قطاع الأعمال في حين أن الهدف هو التطوير والتجديد لمؤسسات البحث بحيث تسهل مهمة قطاعات الإنتاج وفي النهاية يتنقل المجتمع كله إلى منحنى سواءٍ أعلى.
رابعًا: التحديد الواضح للأهداف التقنية الإنتاجية، بل ومن الأفضل عمومًا تحديد الأهداف من التقنية العلمية عمومًا، التي ترغب منطقتنا العربية تحقيقها. فكلما كانت الأهداف طموحة كلما كان الإطار اللازم لتحقيقها أعمق وأكثر تعقيدًا وأصعب وصولاً إليه. وهنا تظهر أهمية الكتلة السكانية والبعد الجغرافي والتنوع في الموارد الطبيعية زراعية وتعدينية ومناخية، بل وحتى من ناحية الموقع ودرجة انفتاحه للوصول إليه، إن الدولة التي تتقوقع على نفسها بعدد سكاني صغير، أو حتى لو كان كبيرًا، وتضع نفسها في كهف يحمي من فيه ويقيد الدخول إليه والخروج منه، تجدها بعد سنوات في مكانها كما كانت قبل التوقع، كالهنود الحمر الأميركيين في معسكرات للتصبير أو كتكتلة سكانية خلف ستار حديدي يمنع دخول أي جديد، وهم في نفس الوقت لا يقدرون على التجديد... الباب الذي يأتي منه الريح يسدّ ونستريح. التحديد الواضح للأهداف يعني وضع الاستراتيجيات التي تُمكّن من تحقيق تلك الأهداف... ما هي الأهداف التي وضعتها المنطقة لنفسها — أو ستضعها لنفسها، وبالذات بعد كارثة الكوارث، وما هو البعد السكاني والجغرافي لهذه الأهداف؟ ربما ما زالت المنطقة تترنح من آثار الصدمة التي بدأت في شهر أغسطس 1990 واستمرت حتى بداية 1991. ربما مازالنا تحت آثارها حتى الآن. وليس هناك وقت يضاع، وقتٌ حل فيه النظام الدولي الجديد وما يعنيه من تسلط القوي على الضعيف. إذا لم تتحرك هذه الأمة العربية بثقة ومعرفة وضمن مخطط ينبع من منطقتها ويشكل مصلحتها الحاضرة والمستقبلة، وإذا لم تتحرك بثقة ومعرفة بمخطط يتم الاتفاق والاجماع عليه، فإن هذه المنطقة وما عليها من بشر ستكون مستضعفة في الأرض، بالرغم من حجمها السكاني وموقعها الحضاري ومواردها الاقتصادية الغنية. وإذا كانت «حرب الخليج هي بروتقة النظام العالمي الجديد»، كما قالها الرئيس الأمريكي السابق بوش، فإن المنطقة العربية عمومًا ستكون الضحية الأولى لهذا النظام، إذا أخذنا موقف المتفرج.
هل كلمة «حرب» تصف ما حصل في الخليج؟ العراق دولة كبرى في المنطقة وقوة عسكرية جبارة تبلع بعدوانها دولة جارة شقيقة مسالمة صغيرة، مساحة وسكاناً، ولا تكافؤ على الإطلاق بين الاثنين. عداون ظالم وانتهاك الأعراف والقوانين الدولية، وخيانة للعلاقات الأخوية. هل هذه حرب؟! إنها كارثة. وفي الجهة الآخرى معاقبة العدوان: دول عظمى وقوى عسكرية تتجمع من مختلف أقطار العالم، ويتحطّم العراق ويجوع شعبه ويذل... ويبقى صدام حسين وحزب البعث يحكمان العراق. هل هذه حرب؟! إنها كارثة ومجزرة، منكر وأنكر، ولعله شيء من توارد خواطر، فلقد نشرت جريدة الشرق الأوسط في عدد يوم الأربعاء ٤ صفر ١٤١٢هـ (وكانت هذه الملاحظة قد كتبت) رسالة من القارئ عبدالعزيز الزومان جاء فيها تحت عنوان «لم اسمع عن حرب الخليج»: «لأن الحرب عادة تكون بين طرفين متساويين أو شبه متساويين وهناك فرصة لكل طرف بانهاء اللصراع لصالحه، فلا نقول إن الأسد يتقاتل مع الأرنب بل نقاول الأسد يصطاد ويبتلع ويسحق الأرنب. وكلنا نذكر أنه حينما اجتاح العراق الكويت فاننا لم نطلق على ذلك حرب الكويت، بل أطلقنا عليه اجتياح وغزو الكويت والعدوان على الكويت، والسبب عدم تكافؤ الطرفين في العدد والعدة. فلماذا يسمي العالم، بما في ذلك إعلامنا عملية تحرير الكويت بالحرب؟ إننالم نر أو نسمع عن حرب الخليج فلك الذي زأيناه وسمعناه وعرفناه أ٫ قوات التحالف لم تعط المعتدي ولا جيشه الفرصة لالتقاط النفس أو حتى خروج الجنود من مخابئهم وحفرهم فأين الحرب؟
لقد تعرضت هذه التقنيات خلال مراحلها إلى التطوير كما تعرضت من قبل الإنسان - خصوصًا خلال القرون الأخيرة - للتحوير والتبديل. وخلال مراحلها ومن وقت لآخر - استمرت المقاومة ضدها من مرحلة اللاتقنية. كما ارتد عنها مرتدون وحاول تقليدها مدعون. وحتى وقتنا الحاضر تنتشر جيوب مقاومتها والصراع معها خصوصًا وقد انتشرت التقنية العلمية.
تستعمل كلمة "الشمال" لتشمل دول التقنية العلمية أينما كانت وبدأت جمهوريات الاتحاد السوفييتي مؤخرًا الالتحاق بهذه المجموعة. ويضاف إلى "الشمال" اليابان وأستراليا، كما قطعت بعض دول آسيا خطوات واسعة في ذلك الاتجاه.
ومع أن الفكرة
بتصرف من مقال "مستقبل الدول النامية أو الهنود الحمر سنة 2000".
طبعاً حدث نقل تقني لمنطقتنا وإن كان على نطاق محدود. على المرء مشاهدة القنوات رقم 1 في تلفزيوناتنا العربية (ليس لمشاهدة المسرحيات والمسلسلات التي ما زالت عند تقنية البكاء والنواح والعويل والشكوى أو التهريج أو الاحتيال والتهريج بما زالت وجبة الغذاء مظاهرة) وإنما لمعاينة مستوى الإبداع في برامجها مقارنة بالقنوات 2 - حيث الإبداع توم آند جيري ودونالد داك.
يمكن القول إن التجديدات في ظل التقنية العلمية تسير في متوالية هندسية مع الزمن. فإذا أخذنا فترة ثابتة – عشر سنوات مثلاً – كمقياس، يمكن تصور التقنية فالسابق يكون في المقدمة، وكلما مر الزمن كلما زادت الفجوة بين السابق والذي يليه. أنظر «مستقبل الدول النامية»...